ليكسوس: لُقى أثرية ومسرح مفتوح وبقايا أسوار وصهريج تمليح السمك

على ربوة محاذية لمدينة العرائش المغربية التي تبعد عن طنجة حوالي 90 كيلومترا، تقع آثار مدينة ليكسوس التاريخية التي يعود بناؤها إلى القرن الثامن قبل الميلاد على يد الفينيقيين، وقد ورد ذكرها في عدد من النصوص الإغريقية واللاتينية، حيث اعتُبرت أقدم حاضرة في المغرب وفي غرب البحر الأبيض المتوسط، وامتد تعميرها على فترة طويلة تناهز 22 قرنا، إذ انتقلت من مدينة مزدهرة أسسها التجار الفينيقيون إلى مستوطنة رومانية، ثم إلى مدينة إسلامية عُرفت باسم “تشميس” ما بين القرن الثامن والرابع عشر الميلاديين.

ومن أعلى الربوة التي توجد فيها آثار ليكسوس، يمكن للمرء أن يحظى بمشهد بانورامي يضمّ السهل الذي يرسم فيه نهر اللوكوس انعراجات كبيرة قبل اتصاله بالبحر، أي بالمحيط الأطلسي.

في ذلك المكان، نظمت وزارة الثقافة والاتصال المغربية يوم السبت 20 نيسان/أبريل، زيارة لصالح ممثلي وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية، بمناسبة الافتتاح الرسمي لموقع ليكسوس ولمحافظته، حيث أنشئ مركز إرشادات يبرز الثراء الأركيولوجي للموقع، من خلال معرض علمي منجز بطريقة حديثة يروي أسرار ليكسوس وخباياها، بما يمكن من التوفر على مفاتيح فهم واستيعاب كل المعطيات المرتبطة بالشهادات والأطلال التي كشفت عنها الأبحاث الأثرية. فتصميم المعرض وفضاءاته توجه الزائر من المشهد القديم الذي عرفت فيه الأبحاث الجيومرفولوجية، إلى عالم الأساطير والحكايات التي نسجت في الماضي حول مدينة ليكسوس. وبفضل مختلف اللقى التي كشفت عنها التنقيبات الأثرية في المدينة أو في مدافنها، يمكن أن تُستشف أهمية ميناء ليكسوس، وانفتاحه على المحاور التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهنا يتم تسليط الضوء بشكل مركز على معامل تمليح السمك، كونها تشكل أكبر مجمع صناعي من نوعه في غرب حوض المتوسط، إذ كان منتج ليكسوس من سمك التونة الصغير سلعة رفيعة مطلوبة وقتئذ في بلدان المنطقة بما فيهها روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية. ولم يكن للجوانب الثقافية أن تنسى في ذلك المعرض، فمن خلال وثائق مادية متعددة كالنقوش على الخزف والنقود والنقائش في المدافن الجنائزية، يتبين الزائر أن أهل ليكسوس كانت لهم ثقافة محلية قوية متأثرة ومنفتحة على الثقافة المتوسطية، خاصة البونية واللاتينية.

من الفينيقيين إلى المسلمين

تشير الوثائق التي حصلت عليها “القدس العربي” أثناء زيارة الموقع التاريخي، إلى أن أصول ليكسوس ترجع إلى نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، تاريخ الاستقرار الفينيقي بها وبناء معبد إلههم “ملقارط” حيث كانت تغطي مساحة تقدر بـ 14 هكتارا. تطورت مدينة ليكسوس من مجرد مركز تجاري إلى مدينة قائمة بذاتها. هذا التطور لم يكن ناتجا فقط عن تصدير المنتوجات المحلية أو إعادة تسويق المواد المستوردة، بل لأنها تمكنت من احتكار تجارة المنطقة بأكملها، ما جعل سكانها يعيشون في رفاهية تجلت في الأساس في استعمال مواد ومشغولات من الطراز الرفيع مستوردة من شرق المتوسط مثل فينيقيا واليونان وقبرص.

في الفترة المورية والتي تمتد من أواخر القرن السادس قبل الميلاد إلى سنة 40 ميلادية، تؤكد المعطيات الأركيولوجية (الأثرية) انتعاش المدينة وربطها علاقات تجارية مع القرطاجيين ومع مناطق بشرق المتوسط. فيما بين القرن الثالث قبل الميلاد و40 ميلادية، على غرار باقي موريتانيا الغربية (شمال المغرب حاليا) عرفت ليكسوس تطورا عمرانيا تحت حكم الملوك الموريين، من خلال بناء المنازل ذات الصحن الداخلي والأزقة المبلطة بالحجار المنجورة، بالإضافة إلى البنايات العمومية والأسوار الدفاعية.

خلال الفترة الرومانية، عرفت المدينة أوج اتساعها محاكية بذلك أهم مدن الإمبراطورية الرومانية، حيث شيدت بها العديد من البنايات العمومية من حمامات ومعابد ومحكمة ومسرح دائري وأسوار دفاعية وحي صناعي مختص في تمليح السمك، بالإضافة إلى منازل فخمة مزينة بالفسيفساء والرخام والتماثيل واللوحات الفنية الحائطية المصبوغة.

وعقب أزمة عامة شاهدتها الإمبراطورية، واكبها التخلي عن جنوب ولاية موريتانيا الطنجية، بقيت ليكسوس تحت حكم الرومان، إلا أنها عرفت انكماشا اقتصاديا صاحبه تقلص لعدد سكناها، ما دفع لبناء سور جديد بعد هجر أحياء مهمة منها.

ومنذ نهاية القرن الثالث الميلادي، دخلت ليكسوس فيما يسمى بالقرون المظلمة ما بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين. المعلومات المتوفرة تؤكد استمرار المجمع الصناعي في الاشتغال إلى حدود أوائل القرن الخامس الميلادي، كما استقر في المدينة مسيحيون قبل دخول المسلمين إليها. وبقي الاستقرار بالمدينة التي أصبحت تحمل اسم “تشميس” إلى حدود القرن الرابع عشر ميلادي، حيث عرفت في إحدى فتراتها استقرار أمير إدريسي بها، وقد كانت عامرة ومحاطة بأسوار. على المستوى الأركيولوجي (الأثري) تم الكشف في “ليكسوس” عن منزل ومسجد، علاوة على كمية معتبرة من اللقى الأثرية التي تعود إلى الفترة الإسلامية وخاصة الموحدية والمرينية.

مسار الحفريات

تفيد الوثائق الرسمية بأن تحديد موقع ليكسوس، لأول مرة، يعود إلى باحث ألماني اسمه هنريش بارث، سنة 1845 وذلك اعتمادا على ما ورد ذكره في النصوص القديمة، حيث تعرّف على سور كبير قائم في الطرف الغربي من الهضبة الشمالية. بعد ذلك، في سنة 1877 تعرف شارل جوزيف تيسو (عالم آثار ودبلوماسي فرنسي) عند قدم المنحدر الجنوبي للربوة على بقايا ميناء ليكسوس، كما أشار إلى وجود قبر في الجهة الشرقية خارج أسوار المدينة. وفي سنة 1889 أجرى هنري دو لا مارتينير، وهو مستكشف وفيلسوف ودبلوماسي فرنسي، أولى التنقيبات في الموقع استنادًا إلى الاستنتاجات العلمية لتيسو، وقد وضع أول تصميم إجمالي للموقع. أما الباحث الإسباني سيزار لويس دو منطالبان فقد كرس أبحاثه التي استغرقت 27 سنة لاستكشاف المدافن الشرقية والغربية والكشف عن الباب الشرقية للسور الروماني ومصانع تمليح السمك والبازليك وحي المعابد، حيث اكتشف قناعا من البرونز يمثل وجه الإله أوقيانوس.

في حين تناولت الأبحاث التي يشرف عليها المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث (المغربي) ابتداء من تسعينيات القرن العشرين موضوعات شتى حول مدينة ليكسوس ومحيطها في إطار مجموعة من البرامج يديرها باحثون من المعهد المذكور.

وعلى الرغم من أن عمليات الحفر لم تشمل إلا حوالي 10 في المئة من مساحة الموقع، فقد توصلت إلى نتائج علمية جديدة حول بعض الجوانب من تاريخ المدينة وتطورها العمراني وخصوصياتها الهندسية وتدقيقات كرونولوجية وتأويلات أماطت اللثام عن تاريخ بعض المباني الفخمة، بالإضافة إلى الكشف عن عدد هائل من اللقى الأثرية المتنوعة التي تكتسي أهمية تاريخية وفنية كبيرة.

ومن بين المآثر المكتشفة الموجودة في “ليكسوس”:

ـ حي المسرح الدائري والحمامات العمومية: يتكون الحي من المسرح الدائري والحمامات العمومية، ويعد المسرح الدائري بناية فريدة من نوعها، إذ إنها كانت في الوقت نفسه مسرحا للعروض الفنية والموسيقية، وحلبة لعروض المصارعين والحيوانات الضارية، وهذه الوظيفة المزدوجة تجعل منه البناية الوحيدة من نوعها في شمال أفريقيا، تبلغ مساحة الحلبة 804 أمتار مربعة، أما المدرجات فهي ذات شكل نصف دائري.

تحتوي الحمامات العمومية المحاذية للمسرح على غرفة تغيير الملابس وقاعة كبيرة باردة تزينها فسيفساء ذات رسومات هندسية تتوسطها فسيفساء تمثل وجه الإله أوقيانوس، وعلى قاعات دافئة وساخنة وأحواض. وكانت هذه الحمامات الرومانية مزينة كذلك بالصباغات الجدارية والرخام.

ـ الحي السكني: يتعلق الأمر بمجموعة من المنازل الموجودة بأعلى ربوة “تشميس”، باستثناء واحدة تقع في القسم الأسفل من الموقع. ويتكون الحي من منازل رومانية شاسعة وذات باحات داخلية معمدة، تشير إلى بذخ وثراء ملاّكي مصانع تمليح السمك وملاكي الأراضي الزراعية الموجودة في ضواحي المدينة. وقد زينت هذه المنازل بلوحات فسيفسائية تحمل رسوما هندسية وتصويرية وصباغات جدارية، وحمامات خصوصية، وتحف ذات قيمة فنية عالية. كل هذه اللوحات الفسيفسائية المكتشفة في خمسينيات القرن العشرين، باستثناء واحدة منها، هي معروضة حاليا بالمتحف الأثري في مدينة تطوان، وتتناول موضوعات أسطورية، مثل مارس وريا سيلفيا، وهليوس وإيروس، وبسيكي، والمليحات الثلاث، وموكب باخوس… الخ.

ـ مجمع بمقومات قصر: يحتل ما كان يسمى بحي المعابد أعلى ربوة الموقع، وتعود بقاياه إلى مختلف مراحل التعمير التي شهدتها المدينة، أي من المرحلة الفينيقية إلى حدود القرن الرابع عشر. وقد عرف إعادة تهيئة شاملة خلال الفترة الرومانية، ويضم هذا الحي العديد من البنايات، نذكر منها معابد وحمامات عمومية ومنزل إسلامي ومسجد. إلا أن ما يميزه هو وجود مجمع بمقومات قصر، من بين أهم مكوناته بناية ذات أروقة معمدة، ويؤرخ هذا المجمع الفخم والفريد من نوعه بالنسبة لمدن المغرب القديم، بعهد الملكين يوبا الثاني وابنه بطليموس، فهو من بين أهم أحياء ليكسوس التي استمرت فيها الحياة، إلى أن تم الجلاء عن الموقع والاستقرار بمدينة العرائش.

وإلى جانب هذه المباني، يحتوي الموقع على أسوار تعود إلى مختلف الفترات، وعلى صهاريج لتخزين المياه الصالحة للشرب، وبقايا قناة مائية، ومنازل مورية ومدافن.

ـ الحي الصناعي: يتعلق الأمر بمجمع صناعي مختص في تمليح السمك، يوجد في المنطقة السفلى من الموقع غير بعيد من وادي اللوكوس، والمكان الذي يحتمل فيه وجود بقايا الميناء النهري. يتكون المجمع من 10 مصانع و150 صهريج لتمليح السمك، بإمكانه إنتاج حوالي مليون لتر خلال كل موسم صيد.

وزير الثقافة المغربي: طموحنا تتويج عالمي لليكسوس من طرف اليونيسكو

أكد وزير الثقافة والاتصال المغربي أن موقع ليكسوس الأثري أعرق الحواضر في المغرب وأحد أقدم وأنشط المراكز الحضرية في زمانه على مستوى البحر الأبيض المتوسط، مضيفا أنه يجسد نموذجا حيا لعراقة التراث المغربي وأصالة مجده التليد.

وقال خلال الافتتاح الرسمي لموقع ليكسوس الأسبوع الماضي: إن مكانة ذلك الموقع “الذي يحمل كل مكونات ومؤهلات التراث العالمي يضعنا أمام مسؤولية وطنية جسيمة تستدعي استنهاض الهمم وإحكام المقاربة لحفظه على أصالته للأجيال القادمة، وردّ الاعتبار إليه والتعريف به”.

وتابع قوله إن عمل الوزارة في موقع ليكسوس لم ينته بعد، فمكنونات الموقع الأركيولوجية ومؤهلاته الاقتصادية يمكن أن تبوئه بيُسر تتويجا عالميا من لدن اليونيسكو. ولذلك، أعطى الوزير تعليماته لوضع برامج تنقيب أثري سنوية في الموقع نفسه، تخصص له ميزانية قارة للكشف عن أجزائه الهامة لتسليط الضوء على جوانب من تاريخ الموقع والمنطقة. وأعلن أنه سيتم إحداث مدخل جديدة لتسهيل الولوج عبر الطريق السيار، بالإضافة إلى مجموعة من أشغال التهيئة الداخلية التي ستوفر شروط الراحة والاستفادة والاستمتاع بما يتيحه الموقع على الصعيدين التراثي والبيئي.

واعتبر الوزير المغربي افتتاح هذا الموقع بتهيئة جديدة ومندمجة، يؤسس لبداية مرحلة مختلفة من إدارة وتدبير المواقع الأركيولوجية، موضحا أنه بعد سنتين من التشخيص والمعاينة الميدانية لواقع حال المواقع الأثرية التابعة لقطاع الثقافة، تبين أن جهود الحفظ لضرورة الصيانة واحترام الماضي فقط دون الحرص على ربط تلك المواقع بمنافع يستفيد منها المجتمع والاقتصاد المحلي والوطني أصبح أمرا متجاوزا لن يفضي في النهاية سوى لفوائد محدودة قياسا بالمال والجهد المستثمرين.

واستحضر محمد الأعرج دعوة العاهل المغربي محمد السادس إلى إدماج تراث الثقافي في مشاريع التنمية وليس فقط تحنيطه في إطار رؤية تقديسية للماضي، موضحا أن هذه الدعوة تلقي مع تنصيص منظمة الأمم المتحدة على إدراج الثقافة ضمن أهداف التنمية لأول مرة في جدول الأعمال الدولي للتنمية المستدامة في أيلول/سبتمبر 2015.

واستطرد قائلا: إن التجارب الرائدة في عدد من الدول أكدت أن حماية التراث الثقافي وتأهيله من جهة وتوظيفه للمساهمة المباشرة في تحقيق جزء كبير من أهداف الرخاء المستدام هو، في نفس الوقت، غاية ووسيلة. فالتراث الأركيولوجي والثقافي عامة يشكل موردا غير متجدد يجب حمايته وإدارته بكل عناية من خلال وضعه في مكانه الصحيح بوصفه أولوية في برامج العمل التنموي وليس استثناء مناسباتيا أو ترفا فكريا. فنجاح أي تدخل في مجال الحفظ يجب أن يتجاوز براعة الحل التقني لإطالة عمر الشواهد والبقايا الأثرية، ليأخذ بعين الاعتبار أيضا مستوى تعزيز وتثمين معنى الموقع، حتى يصبح مركز إشعاع ثقافي وهاج للرفع من جاذبيته واستقطابه للزوار بديمومة.

وأعلن أن وزارة الثقافة تسعى إلى تحديث وتحيين المنظومة التشريعية الخاصة بالتراث والرفع من الميزانية المخصصة لتدبير وتثمين المواقع الأثرية والمعالم التاريخية، وفق برامج عمل تعاقدية مع المسؤولين عنها وبأهداف ومؤشرات قابلة للقياس الكمي تراعي الجوانب العلمية والتثقيفية والاقتصادية.

كما أعلن أيضا أن وزارته بصدد التحضير لإجراء استشارة حول التراث الثقافي على منوال الاستشارة المتعلقة بالثقافة والتنمية المستدامة التي نظمتها سنة 2014 وذلك لتجميع وتحليل التصورات، مركزيا وجهويا ومحليا، يساهم فيها كل الفاعلين الذين لهم صلة بالتراث الثقافي من إدارات عمومية، ومجالس بلدية وجامعات ومراكز البحث العلمي وفاعلي المجتمع المدني لبلورة تصور يتجاوب مع متطلبات التدبير العصري للتراث الثقافي.

استطلاع: الطاهر الطويل

الصور بعدسة: محمد امحيمدات

ذات صلة